الإنسانية في ليبيا بين فكي النزاع والميليشيات.. من يحمي الحقوق من الانتهاكات؟
عقد من الجرائم والصمت
منذ سقوط نظام معمر القذافي قبل أكثر من عقد، لا يزال الملف الحقوقي في ليبيا بعيدًا عن مساره المنشود في حماية الحريات وصون حقوق الإنسان، مع توالي التقارير التي ترصد انتهاكات جسيمة، كان آخرها التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية.
ويؤكد خبراء قانونيون وحقوقيون تحدثوا لـ"جسور بوست" أن الوضع في ليبيا ينذر بالخطر، في ظل استمرار الانتهاكات الواسعة، إلا أن بعضهم يرى بصيص أمل في حال توفرت إرادة سياسية جادة، ودعم دولي حقيقي، إلى جانب توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية تحت سلطة مدنية شرعية، وبناء مؤسسات دولة قوية وموحدة.
وأدرج تقرير العفو الدولية، الصادر في أبريل 2025، ليبيا ضمن الدول التي شهدت انتهاكات واسعة النطاق، شملت خنق الحريات، والاحتجاز التعسفي، وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب، وسط استمرار الجمود السياسي وفشل الفصائل المتنازعة في التوصل إلى اتفاق بشأن حكومة موحدة، أو ميزانية موحدة، أو تحديد مواعيد للانتخابات الرئاسية والتشريعية المؤجلة منذ سنوات.
ممارسات ممنهجة
رصد التقرير استمرار الاحتجاز التعسفي والمحاكمات غير العادلة، حيث ألقت قوات أمن وميليشيات وجماعات مسلحة القبض على مئات النشطاء والصحفيين ومسؤولي الدولة، على خلفية آرائهم أو انتماءاتهم الفعلية أو المزعومة، أو بدوافع مالية، وتنوعت أساليب التعذيب بين الضرب، والصعق بالكهرباء، والعنف الجنسي، والحبس في أوضاع مرهقة، مع نشر اعترافات مُنتزعة تحت التعذيب عبر الإنترنت.
كما واصلت الميليشيات الموالية للسلطات المتنافسة التضييق على المجتمع المدني، من خلال الاعتقالات والاختطاف والتهديدات، وفرض التحقيقات القسرية، والملاحقات بدعوى جمع معلومات أو التعاون مع جهات أجنبية.
وتعرض الصحفي أحمد السنوسي للاعتقال في طرابلس، في يوليو 2024، بعد نشره تحقيقًا عن فساد مزعوم في حكومة الوحدة الوطنية، وأُفرج عنه بعد ثلاثة أيام إثر موجة استنكار، لكنه غادر البلاد لاحقًا إثر تلقيه تهديدات.
وفي أكتوبر من العام نفسه، فرّقت قوات عسكرية مظاهرة سلمية في مدينة يفرن بالقوة، أثناء احتجاج على تدهور الأوضاع المعيشية وتزايد نفوذ الميليشيات.
ورغم الحفاظ النسبي على اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 2020، اندلعت اشتباكات مسلحة متفرقة بين ميليشيات متنافسة في طرابلس والزاوية والجميل وسبها، بسبب الصراع على الموارد والنفوذ.
وفي أغسطس 2024، شهدت منطقة تاجوراء شرق طرابلس معارك عنيفة خلفت تسعة قتلى وعددًا من الجرحى، ونزوح عشرات العائلات مؤقتًا.
إفلات من العقاب
وأكد التقرير أن قادة الميليشيات وقوات الأمر الواقع في ليبيا يتمتعون بحصانة فعلية من المحاسبة عن الجرائم المرتكبة، بما في ذلك جرائم مشمولة بالقانون الدولي، وفي مايو، أنشأت حكومة الوحدة الوطنية جهازًا جديدًا لمكافحة الجرائم المالية والإرهاب، دون أي مراجعة لخلفيات أعضائه الحقوقية أو القانونية.
ووثّق التقرير انتهاكات صارخة ضد النساء، شملت التمييز القانوني والمجتمعي في الزواج، وحضانة الأطفال، والمشاركة السياسية. كما تعرض المهاجرون واللاجئون لانتهاكات واسعة، شملت التعذيب، والعنف الجنسي، والابتزاز، والاحتجاز القسري في ظروف غير إنسانية.
ومن يناير إلى سبتمبر 2024، لقي 1749 مهاجرًا حتفهم أو فُقدوا في البحر المتوسط، وعُثر على مقبرتين جماعيتين في ليبيا تحتويان على عشرات الجثث. وتم اعتراض أكثر من 21 ألف مهاجر في عرض البحر، واحتجازهم في مراكز تديرها جهات أمنية وميليشيات، في ظل غياب أي رقابة دولية أو محلية فعالة.
وفي تطور مقلق، قامت السلطات التونسية بترحيل آلاف اللاجئين قسرًا إلى ليبيا، حيث تعرضوا لانتهاكات جسيمة فور إعادتهم، بما في ذلك التعذيب وسوء المعاملة على يد قوات ليبية مسلحة.
نقطة تحوّل
وفي مايو الجاري، شهدت طرابلس موجة عنف دامية، إثر اشتباكات بين جهاز دعم الاستقرار بقيادة عبد الغني الككلي (غنيوة) واللواء 444 قتال، أسفرت عن مقتل الككلي وسقوط عدد من الضحايا المدنيين، وتدمير واسع للممتلكات.
وعلى خلفية هذه الأحداث، عقد النائب العام الصديق الصور اجتماعًا موسعًا مع قادة أمنيين وقضائيين لمناقشة التجاوزات، بما في ذلك الاعتقال التعسفي، والتعذيب، وتقييد حرية التنقل، ومصير المفقودين، والأضرار المادية الناتجة عن الاشتباكات.
وأثارت هذه الاشتباكات احتجاجات واسعة في شوارع طرابلس، طالب فيها المتظاهرون بضرورة إنهاء تغوّل الميليشيات، وإخضاع جميع التشكيلات المسلحة لسلطة الدولة المركزية، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، وبدء إصلاحات جذرية تشمل تفكيك الميليشيات وإنهاء الإفلات من العقاب.
انتهاكات مستمرة
بدوره أكد الدكتور عبد المنعم الحر، رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليبيا، أن البلاد لا تزال تشهد طيفًا واسعًا من انتهاكات حقوق الإنسان، أبرزها الحرمان من الحرية، بما في ذلك الاعتقال والاحتجاز التعسفي والتفتيش والقتل خارج إطار القانون، مشيرًا إلى أن هذه الانتهاكات لا تزال مستمرة حتى اليوم.
وقال الحر في تصريح لـ"جسور بوست": "تتعدد دوافع هذه الانتهاكات، فمنها ما هو سياسي أو جهوي أو قبلي، نتيجة الصراعات بين مختلف الأطراف، إذ يلجأ البعض إلى اعتقال الخصوم، أو حتى من يتواصل معهم أو يُظهر تعاطفًا معهم، إلى جانب حالات أخرى من الخطف على الهوية، أو لأغراض مالية كطلب الفدية".
وأضاف: "لا يمكن حصر الأضرار الناجمة عن هذه الانتهاكات أو تقييم فداحتها، فهي تتراوح بين آثار نفسية عميقة تطول الضحايا وأسرهم، إلى أذى جسدي نتيجة الضرب والتعذيب والحرمان من الراحة، والغذاء الصحي والعلاج المناسب، كما تتكبد عائلات الضحايا خسائر فادحة بسبب فقدان المعيل، وضياع مصادر الرزق، وتفاقم شعور انعدام الأمان لدى المواطنين في وطنهم".
وشدد الحر على أن تراكمات هذه الانتهاكات تعوق أي مساعٍ لتحقيق المصالحة الوطنية، أو بناء سلم اجتماعي مستدام بين مكونات المجتمع الليبي، مؤكدًا أنها تُعمق الجراح وتضاعف من آثار الحروب والنزاعات السياسية والاقتصادية والجهوية والقبلية.
واقع قاتم
من جانبه، يرى المستشار القانوني والناشط الحقوقي الليبي، وشيخ مدينة بني وليد، موسى علي الغويل، أن تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في أبريل 2025، يسلّط الضوء على استمرار تدهور أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا، في ظل الانقسام السياسي وتعدد مراكز النفوذ، وضعف المؤسسات الرسمية، وغياب المساءلة القانونية.
وأضاف الغويل، في تصريح لـ"جسور بوست": "الانتهاكات الموثقة، من اعتقال تعسفي وتعذيب وتضييق على الحريات العامة، تعكس عمق الأزمة الحقوقية التي يرزح تحتها المواطن الليبي يوميا".
لكنه استدرك قائلاً: "ورغم هذا الواقع المؤلم، فإن الأمل لا يزال قائمًا في حال توحيد الجيش والمؤسسات الأمنية تحت سلطة مدنية شرعية، وبناء مؤسسات دولة موحدة وقوية، هو الطريق الوحيد لوقف الانتهاكات وضمان احترام الحقوق وتهيئة بيئة آمنة ومستقرة تسمح للعدالة بأن تأخذ مجراها".
وأشار الغويل إلى أن "فرص التحسن ممكنة، لكنها مشروطة بوجود إرادة سياسية حقيقية، ودعم دولي جاد لمسار توحيد المؤسسات، إلى جانب تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والمساءلة داخل أجهزة الدولة، بعيدًا عن منطق الإفلات من العقاب".
وختم الغويل بالقول: "علينا أن نقرّ بالواقع كما هو، دون أن نفقد البوصلة. فليبيا تستحق مستقبلًا أفضل، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال إصلاح جذري وشامل، يبدأ من احترام الإنسان الليبي، وصون حقوقه وكرامته".
ورغم مرور أكثر من عقد على سقوط نظام معمر القذافي، لا تزال ليبيا غارقة في دوامة الانتهاكات الحقوقية، وسط انقسام سياسي عميق، وتغوّل جماعات مسلحة على حساب مؤسسات الدولة.
ويكشف تقرير العفو الدولية وغيره من الشهادات الميدانية عن مشهد قاتم في ليبيا تسوده الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والإفلات من العقاب، في ظل غياب سيادة القانون وتآكل ثقة المواطن في الدولة.
إلا أن هذا الواقع على قتامته، لا يلغي وجود بصيص من الأمل في مستقبل أفضل، إذ يتفق الخبراء على أن الطريق نحو العدالة والكرامة يبدأ بإرادة سياسية جادة، وتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية تحت سلطة مدنية، إلى جانب دعم دولي فعّال يُعلي من شأن حقوق الإنسان ويُعزز المساءلة.
إن ليبيا اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن تستمر في الانزلاق نحو مزيد من الفوضى والانتهاكات، أو أن تشرع في مسار إصلاحي جذري يعيد للإنسان الليبي حقوقه وكرامته، ويضع أسس دولة القانون والعدالة التي طال انتظارها.